كذبة التاريخ



سمية محنش - كذبة التاريخ  - من يكتب التاريخ؟ الضمير الواعي بضرورة الإخبار عن الماضي و التنقيب فيه بهواته و رحَّالته و مستكشفيه و كتابه و مرتزقته و بائعيه  ، أم أنه الدَّمُ ؛ ذاك الذي أثَّثَ للمعنى معالمه و للمبادئ قداستها ، فروى به أديم الأرض بذات النهم الذي روَّى به محابر كاتبيه ، أم أنه لا قائمة للتاريخ إلا بهما في علاقة تلازمية لا غنى فيها للماء عن الغدير كما للدم عن الضمير ، و إن اختلفت القوالب التي تشكل على أساسها .

يقول اناتول فرانس:” كتب التاريخ التي لا تحتوي على أكاذيب كتب مملة للغاية ” ، لذلك عمد كتابه إلى عدم الاكتفاء بالإحصاء الجامد لسلوكيات البشر الزائلة و حضاراتهم البالية و طرائق الحرب و ما تضمنته خسائرها المختلفة و إنما تجاوزوا ذلك إلى الغوص في أنَّات النفوس فحاوروا أصحابها مصورين تفاصيلهم الصغيرة في خضم الحياة العامة و هو ما لم يكن للتاريخ أن يقوم به بمنأى عن الأدب و الفنون المكرسة في سبيل التعبير عن الإنسان و خفاياه النفسية و هو ما عمد إليه الشعراء و الرسامون و الموسيقيون على مر العصور .

فمن منا لا يعرف قصة طروادة ؛ أشهر الملاحم التاريخية على الإطلاق ، و ما تضمنته من معاني الحرب و معاني التقديس لآلهة الإغريق الذين أداروها بحسب الأسطورة بين المتحاربين من جهة ، و دور المرأة في قيام تلك الحرب من جهة ثانية ، فجاء أول الشعر القديم و أعظمه في شكل إلياذة  في ستة عشرة ألف بيت شعري . فهل كان يمكن للبشرية اليوم لولا إلياذة هوميروس أن تعرف تفاصيل تلك الحرب التي يمتد تاريخها إلى تسعمائة سنة قبل الميلاد بالاعتماد على علماء الآثار وحدهم؟ و إن قيل أن هوميروس قد اعتمد على خرافة الآلهة و إدارتهم للحرب لما حظيت به من قدسية فائقة في ذلك العصر ، و انه  لم يكن ممن عايشوا الحرب و لا من أبناء عصرها ، إذ تمت كتابتها بعد مرور قرنين من حدوثها ، ما يعني قطعا أنها احتوت على الكثير من الأكاذيب البريئة المحاكة بفعل الزمن من جهة و بفعل طبيعة الشعراء التي تغالي في الوصف و تتمادى في الإذعان له من جهة أخرى ، خاصة إذا علمنا انه ما من مقاومة على وجه الأرض استغنت في المقابل عن الشاعر ، حتى إننا نجده في أدبنا العربي محاربا يشحذ سيفه و لسانه معا في خوضه غمرات الوغى ، و قد قال احمد مطر في تفسيره للقول القديم لنصر بن سيار :”إن الحرب أولها كلام ” ، أن الكلام في الواقع محيط بالحرب من أولها إلى أخرها ، نوعية و تحريضا و تمجيدا و هذا ما مثله نصر بن سيَّار نفسه ، و أكده أبو تمام في بيته الشهير : بيض الصفائح لا سود الصحائف*** في متونهن جلاء الشك و الريب ، إذ أكد ضمنا أن سود الصحائف هي الدليل المبصر لبيض الصفائح العمياء ، فعين الأداة المطلوبة في الموقف و حرَّض على استخدامها .

و بذلك اقترن الأدب اقترانا وطيدا بمجريات الحياة بمختلف تفاصيلها ، فصورها بجمالية طافحة جسدتها الأعمال الخالدة في الآداب العالمية .

و أنا أطوف في شريط ذاكرتي محاولة استحضار الكتب التي طالعتها في مراحل زمنية مختلفة ، تطفو على السطح دون قصد مني أعمال أسرتني ذات مرة و مازالت تفعل كلما لمحتها نظرتي مصطفة في مكتبة ظلت تكبر بمرور الأيام و ظلت بوجود تلك القراءات الأولى اكبر من أي مرحلة زمنية لاحقة . لأنها أسست في مخيلتي لماض سبقني وجودا فسبقته إليه بالقراءة و الحياة ، و لا اخفي أحدا أنني عندما قرأت مقولة أناتول فرانس تلك ، فهمت هربي المتكرر من كتب التاريخ العادية و سرعة شعوري بالملل رغم عشقي الدفين لها ، و نزعتي إلى قراءة الأعمال السردية التي تمزج المغامرة بالحب في الأعمال التاريخية  فتغوص في تصوير الشخوص حتى تتراءى لنا كما هي في الواقع ، فنتماهى معهم و نتفاعل مع مصائبهم و مسراتهم ، و كل ما يطرأ على حياتهم .

و هنا تحضرني حادثة وقعت لإحدى صديقاتي ، و التي جاءتني تشتكي من كتاب قصص الأنبياء الذي أعرتها إياه ، إذ قالت لي أنها لا تفهم الكثير من المصطلحات التي جاءت فيه و أنها تفضل قصص الأنبياء المخصصة للفئة العمرية الأصغر لأنها تسلمها الأحداث ببساطة فائقة على كتاب يعقد فهمها ، و يعمق خيبتها فيه . فقلت لها أن إحساسها طبيعي جدا ،  لأن القارئ و مهما تنوعت مشاربه يعمد إلى البساطة أكثر منه إلى التعقيد ، فهو في رحلة بحث دائمة عن أسلوب يدغدغ حواسه ، و يأسر روحه ، و يأخذه إلى العمل الذي بين يديه ، و كأنه جزء لا يتجزأ منه ، لذلك وجب علينا أن نتدرب على مثل هذه القراءات و ألا نفر منها مجددا ، بل أن نحاول الفهم إلى أن نصل إليه لان الكتب التاريخية البحتة هي التي حافظت على الذاكرة الجماعية من التلف ، وعلى أساسها قامت الأعمال الأدبية الكبرى .
تابعنا على الفيسبوك:


  

تابعنا على تويتر: