طرفة بن العبد .. الموهبة أولاً !





عبدالله علي المسيّان - صحيح أن البيئة تؤثر في الإنسان .. ولكنها لاتصنع منه إنساناً له قيمة ما لم يكن هو يمتلك القدرات والإرادة .. طرفة بن العبد هو أشهر مثال لذلك .. عاش في بيئة محاطة بالشعراء .. فأبوه وجده وأعمامه كانوا شعراء .. وخاله الشهير بالمتلمس كان شاعرا أيضاً .. ولكن لو لم يكن طرفة بن العبد إنساناً موهوباً بالدرجة الاولى لما أثرت فيه هذه البيئة بشكل كبير .. فلو كان طرفة محاطاً بألف شاعر .. ولكنه خالي من الموهبة لما وصل إلى ما وصل إليه .. نعم سيصبح شاعراً ولكن ليس شاعراً كاملاً .. بل .. نصف شاعر .. ربع شاعر .. شاعر إلا ربع ..

ولو نفرض .. ان إنسان كان يعيش في بيت يمتاز بجمال الصوت .. فالأب والأم أصواتهم جميلة .. واخوه واخته لديهم أيضاً أصوات جميلة .. وهذا الإنسان الذي نتكلم عنه صوته قبيح .. هل تستطيع البيئة أن تغير صوته القبيح النشاز إلى صوت جميل كروان بمجرد وجوده مع أشخاص جميلو الصوت ؟ .. طبعاً لا ..


فالموهبة هي الأساس ومن ثم تجيء البيئة وبقية المؤثرات في صنع الشخصية العظيمة.
طرفة بن العبد رغم اليتم المبكر ورغم الاضطهاد الذي عاناه من اقربائه ورغم أنه منع من الحصول على حقه في ثروة أبوه إلا ان كل ذلك لم يمنعه من أن يكون احد أهم الشعراء في العصر الجاهلي .. وذهب البعض إلى ان طرفة هو في المرتبة الثانية بعد الشاعر امرؤ القيس .. بل ذهب البعض بعيداً ونصبه الأفضل في العصر الجاهلي.


الأعمار تقاس بالإنجازات ولاتقاس بعدد السنين .. طرفة بن العبد عاش 26 سنة فقط ومع ذلك كتب اسمه كأحد أعظم شعراء العصر الجاهلي .. وهو أحد أصحاب المعلقات السبع .. وأصغرهم سناً .. ومعلقته بقيت إلى الآن وتناولها النقاد على مر العصور والقرون بالشرح وألفوا لها الكتب .. واسمه ينطق إلى الآن ..


والمعلقات عددها سبع ..وهي أفضل القصائد التي قيلت في العصر الجاهلي والعصر الجاهلي هو العصر الذي سبق ظهور الاسلام بفترة زمنية تترواح بين 150 - 200 سنة .. وهي على النحو التالي :


•    قفا نبك من ذكرى حبِيب ومنزل (امرؤ القيس).


•    لخولة أطلال ببرقة ثهمد، لـ (طرفة بن العبد).


•    آذَنَتنَـا بِبَينهـا أَسـمَــاءُ (الحارث بن حلزة).


•    أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَـةٌ لَمْ تَكَلَّـمِ (زهير بن ابي سلمى).


•    أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا (عمرو بن كلثوم).


•    هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ منْ مُتَـرَدَّمِ (عنترة بن شداد).


•    عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَـا (لبيد بن ربيعة).


فالقصائد التي قيلت في العصر الجاهلي كثيرة ولاتعد ولاتحصى .. لكن هذه القصائد السبع كانت الافضل في كل شيء .. في اللغة في الخيال في التصوير الدقيق للبيئة الجاهلية .. ولذا اختيرت هذه القصائد بالذات لتكون خير معبر عن العصر الجاهلي .. ثم كتبت بماء الذهب وعلقت على أستار الكعبة .. ومن هنا جاءت التسمية ..
والسؤال كيف اختيرت هذه المعلقات ؟ ..


في السابق ليس هناك قنوات للشعر أو مجلات للشعر أو أمسيات شعرية .. ولكن كان هناك كرنفال شعري عظيم يقام سنوياً يعرض فيه كل شاعر بضاعته من القصائد .. هذا الكرنفال العظيم اسمه "سوق عكاظ" .. وهناك أيضاً لجنة تحكيم تقيّم القصائد .. وفي هذا الكرنفال اختيرت قصائد هؤلاء الشعراء السبعة على غيرها من القصائد وكتبت بماء الذهب وعلقت على استار الكعبة إيماناً بعظمة هذه القصائد وعظمة قائليها وانها من طراز رفيع ومختلف عن غيرها من القصائد.


ورغم ان طرفة لم يعش طويلاً إلا أن لديه ديوان شعر كامل .. تحتل معلقته "لخولة أطلال" سدس الديوان .. 


وتحتوي معلقة طرفة بن العبد على 104 ابيات وهي أطول معلقة من المعلقات السبع .. رغم أن طرفة صاغ هذه المعلقة في وقت قياسي.


 وقد وضعها بعض النقاد في المرتبة الثانية بعد معلقة امرؤ القيس ..والبعض الآخر من النقاد فضلوا معلقة طرفة على جميع الشعر الجاهلي لما فيها من الشعر الإنساني ـ العواصف المتضاربة ـ الآراء في الحياة ـ والموت جمال الوصف ـ براعة التشبيه ..


 وشرح لأحوال نفس شابة وقلب متوثب.. ولعل انتمائه إلى منطقة من أكثر الأماكن تحضرا في الجزيرة العربية (إقليم البحرين) .. جعل ذلك الشعر الإنساني أكثر بروزاً لديه مقارنة بغيره من شعراء الجاهلية.

و السبب الرئيسي الذي جعل طرفة ينظم هذه المعلقة هو ما لقيه من ابن عمه من تقصير وإيذاء وبخل وأثرة والتواء عن المودة.


وموضوعات معلقة طرفة بن العبد لاتختلف كثيراً عن موضوعات المعلقات الأخرى وهي تشتمل على ست نقاط :


أولاً : الوقوف على الاطلال وهو موضوع تقليدي وأساسي في قصيدة أي شاعر جاهلي لأنهم كانوا من البدو الرّحل ينتقلون من مكان إلى مكان ولذلك لايمكن أن يبدأ الشاعر الجاهلي قصيدته دون تذكر الاطلال واسترجاع شريط الذكريات.


ثانياً .. الغزل .. تغزل طرفة بن العبد بحبيبته خولة وأفرد لها مساحة لابأس بها من القصيدة كما تغزل عنترة بن شداد بحيبته عبله.


ثالثاً : وصف الناقة .. ووصف الناقة استحوذ على معلقة طرفة .. واخذ نصيب الأسد من الابيات .. 35 بيت ذهبت لوصف الناقة .. ولا غرابة فالناقة عند الجاهلي وعند طرفة بن العبد تحديداً مثل سيارة المرسيدس الآن أو ربما اكثر فهي وسيلة مواصلات له وهي مثل الطيارة يسافر بها حيث يشاء وهي من مصادر الطعام وهي ايضاً داخلة في ثروة والده التي حرم منها.


رابعاً : فلسفة طرفة بن العبد في الحياة.


خامساً: مشكلة طرفة مع مالك ابن عمه وهي المشكلة التي ادت إلى كتابة هذه المعلقة.
سادساً: خصص طرفة بن العبد جزء من المعلقة لكي يمدح نفسه.


باختصار .. المعلقة عمل عظيم لشاعر مات في سن الشباب .. وطرفة أحد العظماء .. ومعلقته الذي صاغ كلماتها قبل اكثر من الف و500 سنة ستبقى أيضاً متداولة لزمن طويل جداً.


من يسمع اسم طرفة بن العبد يظن أنه مات في سن الستين أو السبعين .. ولا يدري ان طرفة مات في سن الـ 26 .. طرفة بن العبد كان يسير آنذاك بسرعة الصاروخ .. وشعبيته كانت أخذة في الاتساع .. وفجأة قتل الشاعر الذي لو عاش سنوات اطول لربما أصبح الشاعر الأعظم في تاريخ الشعر العربي .. قتل الشاعر طرفة بن العبد بسبب قصيدة هجاء ضد الملك عمرو بن هند ملك الحيرة .. قصيدة هجاء أودت بحياة طرفة بن العبد كما ادوت قصائد هجاء كثيرة بحياة شعراء كبار كالمتنبي والأعشى وبشار بن برد والسليك بن السلكة وغيرهم كثير.


هذا الموضوع من مساهمات الزوار .. للمشاركة معنا اضغط هنا
تابعنا على الفيسبوك:


  

تابعنا على تويتر: