المجاعة التي قتلت ثلث اللبنانيين في الحرب العالمية الأولى





فرانس 24 - واجهت بلاد الشام، وخاصة متصرفية جبل لبنان، أثناء الحرب العالمية الأولى مجاعة عامة ضربت أجزاء كبيرة من أقاليم المنطقة. بمناسبة الاحتفال بمئوية هذه الحرب نعود مرة أخرى لموضوع هذه المجاعة، والتي وصفها البعض بحرب إبادة، لما تثيره من جدل ونقاش كبيرين اليوم.

احتفالا بمرور مئة عام على اندلاع الحرب العالمية الأولى، أو ما يسمى في فرنسا بالحرب العظمى، نظمت جمعية "أصدقاء المكتبة الشرقية ببيروت" وجمعية "لا ميسيون سنتنير" دورة من اللقاءات والمؤتمرات حول موضوع "الحرب العظمى ولبنان" وذلك بوصف لبنان جزءا من منطقة الشرق الأوسط التي كانت مسرحا للتوتر بين دول الحلفاء ودول الوفاق لأنها كانت آنذاك تحت حكم الإمبراطورية العثمانية.

هذا الحدث كان فرصة جيدة للعودة إلى موضوع المجاعة الكبرى التي ضربت جبل لبنان بين العامين 1915 و1918. ووفقا لما تذكره الأرقام فإن ما بين 120 ألف و200 ألف لبناني، أي ثلث عدد السكان آنذاك، قد قضوا في هذه المجاعة. هذه الحلقة من تاريخ هذه الحرب والتي ضرب عليها ستار من النسيان وصفها البعض بأنها كانت حرب إبادة جماعية وهو ما أثار الكثير من الجدل.

المؤرخ اللبناني يوسف معوض، الأستاذ بالجامعة الأمريكية ببيروت، يشرح لفرانس24 الأسباب الحقيقية وراء تجاهل هذا التاريخ.

هل كانت هذه المجاعة الكبرى (1915- 1918) أكبر كارثة تضرب لبنان في التاريخ؟

يوسف معوض: كان هناك 200 ألف ضحية في أربع سنوات فقط وهو رقم لا شك كبير. كان الناس يتضورون جوعا ولم يكن بمقدورهم فعل شيء كما لم يقووا على المقاومة. وخرجوا يهذون في الشوارع ببطونهم المنتفخة. في كتابه "الخبز"* ذكر لنا توفيق يوسف عواد وصفا لبعض المشاهد التي رآها: "امرأة شعثاء مستلقية على ظهرها رأسها مائل، غزا القمل جسدها، تعلق بها رضيع ذو عيون كبيرة. ومن صدرها برز ثدي ملأته الخدوش يعصره الرضيع بأصابعه الصغيرة وبشفتيه المتلهفتين ليهجره باكيا يائسا من ظهور الحليب". وكان القمح يباع بأسعار خيالية في السوق السوداء. لم تكن هذه حال اللبنانيين وحدهم فسوريا بأكملها كانت تضربها المجاعة فالوقت وقت حرب. ولكن ما يجب معرفته والبحث فيه هل كان اللبنانيون يموتون جراء المجاعة أم لأنهم كانوا يعانون من سوء التغذية؟

وما هي أسباب هذه المجاعة إذن؟

في البداية كان هناك غزو الجراد في العام 1915 والذي دمرت على إثره معظم المحاصيل الزراعية. وبعده كان هناك الحصار البحري الذي ضربه الحلفاء على لبنان ما منع دخول السلع القادمة من مصر. وكان الحلفاء يخشون من وقوعها في أيدي القوات العثمانية أو الألمانية التي كانت متواجدة هناك. لكن السبب الرئيس وراء هذه المجاعة كان الحصار البري الذي فرضه الحاكم العثماني جمال باشا. ومنع دخول القمح تحديدا إلى جبل لبنان ما أدى إلى تجويع كامل سكان المنطقة. وخاصة أن هذه المنطقة الجبلية لم يكن إنتاجها من المحاصيل الزراعية كافيا لإطعام سكانها إلا أربعة أو خمسة أشهر بالعام.


يرى البعض أن سياسة جمال باشا أدت إلى الإبادة الجماعية. رأي يستند إلى تصريح أدلى به وزير الحربية التركي آنذاك، أنور باشا، في العام 1916 والذي صرح قائلا: "إن الحكومة لا يمكنها استعادة حريتها وشرفها إلا عندما يتم تنظيف الإمبراطورية التركية من الأرمن واللبنانيين. الأوائل دمرناهم بالسيف، أما الآخرون فسنميتهم جوعا." هل توافق على هذا الاتهام؟

أنا أرى أنه لم تكن هذه هي الحالة، ليكون هناك اتهام بحرب إبادة جماعية، لابد من توافر النية المبيتة والمتعمدة للقضاء على سكان شعب ما. وفي هذه الحالة تحديدا يتعذر إثبات هذه النية بالدليل القاطع. وهذه اتهامات مزورة ومنتحلة. من المؤكد أن العثمانيين كانوا سيكونون سعداء باختفاء المسيحيين، لكن لم يفعلوا ذلك بشكل منهجي. جمال باشا لم يقل سوى "أنا لا أريد إدخال السلع الغذائية لجبل لبنان لأن اللبنانيين موالون للفرنسيين، وهو ما سيؤدي إلى سقوطها في أيدي الفرنسيين".

أنا نفسي متحدر من عائلة مسيحية عانت هي الأخرى من المجاعة، ولكنني لا أقول إن ما حدث هو إبادة جماعية، كما حدث للتوتسي أو الأرمن. مات اللبنانيون بسبب الإهمال الشديد والقاسي. والحصار البري هو ما زاد الطين بلة، فعلى الإثر ارتفعت أسعار كل شيء، وكان الناس يهربون بجلدهم عابرين الحدود للمدن القريبة ليلاقوا حتفهم على الطريق أو من التسول في هذه المدن سواء أكانت دمشق أم طرابلس أو غيرهما.

ورغم كل هذه الفظائع إلا أن هذا الفصل من تاريخ لبنان أسدل عليه ستار من النسيان. فهذا البلد يحتفل كل عام بالسادس من مايو/أيار مخلدا ذكرى القوميين اللبنانيين الذين أعدموا على يد جمال باشا في العام 1916. فلماذا يتم إغفال ذكرى المجاعة الكبرى؟

على المستوى الشخصي، أعتقد أن الناس كانوا يشعرون بالخجل من رواية أو معرفة ما حدث. لم يكونوا يريدون الاعتراف بأن نساءهم أجبروا على تقديم خدمات جنسية للضباط الأتراك لسد رمق أطفالهم. الأب سليم دكاش، رئيس جامعة القديس يوسف، على سبيل المثال كان يحكي قصة جدته التي اضطرت لمغادرة قريتها، وفي الطريق فقدت طفلها الذي تركته على قارعة الطريق لتذهب للبحث عن خبز على مسيرة ثلاثة أيام سيرا على الأقدام لتطعم طفلها. بالطبع ليست هذه ذكريات تروى للأجيال التالية فهي ليست بحال من الأحول ذكريات بطولية. وفي الجبل، سمعة العائلة فوق كل شيء ويحذر الناس الحديث عن أشياء تحط من قدر وسمعة عائلاتهم. كان الحديث عن هذه المجاعة في العشرينيات [من القرن الماضي] أمرا عاديا أما بعد ذلك فقد دفن هذا التاريخ ولم تعد الأحداث الفظيعة تنقل من جيل إلى جيل.

حقا لقد اختارت الدولة تسليط الضوء على تاريخ 6 مايو/أيار لأنه في حد ذاته رمز على وحدة لبنان لأنه اليوم الذي أعدم فيه وطنيون لبنانيون مسلمون ومسيحيون. ولا تزال الدولة تحتفل به رغم أن الأحداث والحرب الأهلية أثبتت أن هذه الوحدة كانت وهما. هناك أيضا يوم الشهداء الذي يحتفي بموت أربعين شخصا تحت التعذيب. أما ذكرى وفاة 200 ألف شخص فلا تلقى تكريما يذكر. الدولة اللبنانية كانت تبحث عن ذكرى تعيد بناء نسيجها مع عنصرها الإسلامي وتكشف عن وحدة مكونات الدولة. أما هذه المجاعة الكبرى فهي تاريخ يزيد من انقسام البلاد لأن ضحاياها كانوا المسيحيين بالدرجة الأولى فمعظم المناطق التي ضربتها المجاعة، مثل جبل لبنان، مثل المسيحيون أكثر من 80 بالمئة من سكانها.

هل تعتقد أن هذا التاريخ المنسي سيخرج أخيرا إلى الأضواء مع الاحتفال بمرور مئة عام على اندلاع الحرب العالمية الأولى؟

لا، سوف يكون مصيره دائما البقاء على الهامش فهو حدث مقســِّم أكثر من كونه موحدا. سيظل دائما هناك من يقول إن الأتراك المسلمين هم من جوعونا. وهي أقوال تحي وتنفث في نيران الانقسامات والتوترات في بلد مثل لبنان، حيث لا يزال الناس يحاولون محو الذكريات السيئة التي عاشتها الطوائف فيما بينها. ليس إذن الوقت مناسبا للحديث عن المجاعة الكبرى. ورغم أنني لا أمل من التذكير بهذه الأحداث منذ ما يقرب من عقد من الزمن أدركت أن الناس بدأوا يتذكرون رويدا رويدا بعضا منها.



تابعنا على الفيسبوك:

تابعنا على تويتر: