أول فنان عربي هُدّد بالقتل .. قبل مئات السنين




لم يأتِ التاريخ العربي على سيرة فنان مثلما أتى على سيرة زرياب الموسيقي الذي عاش فترته الذهبية في الأندلس وطور من الفنون وكتب "النوتات" وزاد العود وتراً خامساً وافتتح معهداً لتعليم الغناء، بل تجاوز الأمر ذلك لتأثيره على أنماط الناس الاجتماعية والصحية وتأثرهم به على مستوى الأكل والملبس، فكان زرياب أستاذاً أيضاً في الإتيكيت والأناقة، وأصبح في حياته ذو جاه ومال وحظوة ومكانة في البلاط جاوزت الفقهاء والقضاة.


قصة زرياب الفنان تستحق التفتيش في تفاصيلها عن ذلك الفنان الذي كان ملهماً لأبناء عصره حينما تأبط عوده ورحل عن بغداد خوفاً من التصفية الجسدية ليتنقل بعدها في الأمصار إلى أن طاب له الحل في بلاد الأندلس التي كانت آنذاك منارة للحضارة والثقافة والعلم، ومن اللباقة أن نستأذن زرياب في التوقف على مراحل مهمة في حياته فهو من علم أهل الأندلس فن التلطف الجم في المظهر والمخبر.

غيرة وتهديد بالقتل
أبو الحسن علي بن نافع المكنى بـ"زرياب" وهو طائر الأسود بديع الصوت والمولود في عام 789 للميلاد/ 173 هجرية في بغداد كان أحد موالي الخليفة العباسي المهدي، وتلميذاً عند الموسيقي الكبير أبو إسحق الموصلي، ولأن بلاط الخليفة كان بمثابة المسرح الذي يقدم فيه المغنيون الجدد، فبحسب الروايات والمراجع أن الخليفة هارون الرشيد طلب من الموصلي إسماعه صوتا جديدا فقدم له زرياب ظناً منه أنه كأي فنان شاب، إلا أن المفاجأة حصلت عندما بدأ زرياب الغناء وأعجب بأدائه الخليفة أيما إعجاب، فطلب من الموصلي الاهتمام به ومداومة حضوره إلى البلاط، فشعر بنوع من الغيرة من الفنان الشاب وأبدى امتعاضاً منه، وبحسب كتاب "الحضارة العربية في إسبانيا" قال مترجمه الدكتور الطاهر مكي: "في حضرة الخليفة الرشيد فاق الموسيقي الفتى كل ما يمكن أن يتوقع منه، حتى إن أستاذه غار منه وحسده، وتحركت في أعماقه نوازع الشر، فطلب إليه أن يرحل بعيداً عن بلاط الخلافة، وأن يمضي إلى الغرب يلتمس حظه هناك، وخشي الطالب على حياته من أستاذه إن واصل الإقامة في بغداد فعزم على الرحيل".

هذه الغيرة الفنية والتهديد بالقتل لم تكن من موسيقي في بداية طريقه بل كانت من الموصلي الذي وصفه المستشرق هنري فارمر في كتابه عن الموسيقى العربية "أنه يستطيع أن يخضع النظريات المتطاحنة في ممارسة الفن لنظام واضح" وذكر ابن النديم أن لأبي اسحاق الموصلي 40 كتاباً في الغناء والتلحين، فعندما يخشى وهو القامة الفنية على مكانته من فنان شاب ويهدد بتصفيته معنى ذلك أنه توقع نبوغ ذلك الشاب الذي ملأ الأسماع وتناقلت الركبان ألحانه، وإن جاز لنا التعبير فإن خلاف الموصلي وزرياب قد يكون أقدم خلاف فني في المشرق العربي.

قرطبة رحلة العمر
في رحلة الهروب من بغداد مر زرياب بعدد من الأمصار العربية واستطاع في تلك الرحلة أن يكرس حضوره الفني حتى اختار أن يكتب إلى أمير قرطبة (عاصمة الأندلس) "الحكم بن هشام" برغبته في الوصول إليه فأوفد إليه رسولاً مهللاً ومرحباً بمقدمه وفي طريقه بلغه أن الحكم قد مات فشعر بالإحباط وهم بالرجوع إلا أن مندوب الحكم أشار عليه بإكمال الرحلة وأن يقصد ابنه الأمير عبدالرحمن الأوسط ففعل، وكانت المفاجأة أن الأمير المولع بالفن والثقافة خرج بنفسه وحاشيته لاستقبال زرياب وعائلته، يقول مكي: "ركب الأمير بنفسه وخرج من المدينة لاستقباله وغمره بالهدايا وأمر له في الشهر بـ 200 دينار راتب شهري، وأن يجري على بنيه الذين قدموا معه وكانوا أربعة، 20 دينار لكل واحد منهم، وأقطعه من الدور والمستغلات بقرطبة وبساتينها ومن الضياع ما يقوم بـ40 ألف دينار"، وكان وصوله إلى قرطبة في العام 822 للميلاد / 206 للهجرة.

فنان الأناقة والإتيكيت
الحالة النفسية والمعنوية التي عاشها زرياب في الأندلس انعكست على الدولة بأكملها بشكل إيجابي وتذكر المراجع أن زرياب لم يكن فنه مقصوراً على الموسيقى بل كان فناناً أعم وأشمل وتأثيره امتد ليشمل أنماط الحياة الاجتماعية للناس، فهذا العبقري اهتم بالأناقة و"الاتيكيت" وأشاعها بين الناس، علّمهم الشرب في الأواني الزجاجية بدلاً من الأدوات المصنوعة من الذهب والفضة، ونقل إليهم طرق تسريح الشعر للرجال والنساء وتنظيف الأسنان بمادة أشبه بالمعجون، وقرر لهم لبس ثياب مصنوعة من مواد مختلفة وذلك لارتدائها في فصول مختلفة من السنة، وكذلك اهتم بسفرة الطعام وغيّر طريقة تقديمهم للمأكولات حتى يقال إنه نصحهم بالبدء بتناول الحساء "الشوربة" أولاً ثم الدخول إلى الأطباق الأكثر تعقيداً مثل اللحوم، والختام بالفطائر المحلاة بالعسل والمحشوة باللوز، وأقبل الناس عليه مفتونين به.

نشاطه الفني
زرياب الذي مزج بين الفن العباسي والأندلسي أنشأ معهداً للموسيقى يصنف بأنه أول معهد للفن بالعالم واستقطب هواة الغناء من المشرق والمغرب، وأضاف للعود وتراً خامساً واستخدم ريشة نسر للعزف بها على العود عوضاً عن الأخشاب، وجدد اللون الموسيقي للغناء في الأندلس خاصة أنه يرتكز على ثقافة موسيقية استمدها من بغداد وبداياته مع أستاذه الموصلي، وأجرى اختبارات للفنانين وتعليم أكاديمي وفق مناهج وأصول معرفية.

ووفد إلى الأندلس عدد من النساء لتعلم الموسيقى حيث ذكر أحمد بن المقري التلمساني في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" أنه من النساء القادمات إلى الأندلس "عابدة المدنية وكانت جارية سوداء من رقيق المدينة"، و"الجارية قمر وكانت من أهل الفصاحة والبيان"، وهي من بغداد "وجمعت أدباً وظرفاً ورواية وحفظاً مع فهم بارع وجمال رائع" وأيضاً الجارية العجفاء، وكان منارة ثقافية إلى أن توفي في العام 857 ميلادي/ 243 هجرية..